وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأة يَنكِحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه))؛ متفق عليه[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم))؛ رواه مسلم[2].
روضة ناضِرة، وارفة، ثمارُها يانعة، لا بد منها للصائم، وإلا فلا صيام له، والجوع والعطش نصيبه من الصيام إن كان بدونها.
لا بد منها لصحة العمل وقَبُوله، فهي الأصل والأساس، فلا بناء بدونها، وإن ظهر بناء، فهو على جُرُف هارٍ، وأيام وينهار.
يدخلها الصائم ولا يعلم بدخوله فيها إلا الله، فلا يظهر من ذلك للخَلق شيء؛ لذا المرتبة العالية والدرجة الرفيعة: هي درجة المخلصين؛ لأن تجارتهم مع الله وكفى بها منزلة.
يترك الصائم ويمكنه ألا يترك، لكنه يترك مخلِصًا لله؛ لأنه يعلم ويؤمن بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ويؤمن بأن الله مُطَّلِع على حاله لا تخفى عليه خافية، فيترك أكلة أو شربة أو شهوة، وإن اختفى عن الخَلق وغاب عن العيون؛ فالإخلاص لله أروع دروس الصوم.
قريبة هي روضة الإخلاص من الصائم ومُلازِمة له في صومه فيَنعم بنعيمها، ويفوز بجوائزها ويرتقي بثوابها، ويتعلَّم من دروسها حاجته للإخلاص في حياته كلها.
فالصائم يتعلَّم من صومه الإخلاص؛ ليكون له منهجًا في صلاته وزكاته وصدقته وقراءته وسائر طاعاته.
وللعلم، فإن دخول روضة الإخلاص فرضٌ لا خيار فيه: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 3]، ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، ((من عمِل عملاً أَشرَك فيه معي غيري تركتُه وشِركه)).
فالمجاهدة مطلوبة في تخليص النوايا من كلِّ شائبة وتصفيتها لمن سجد له مَن في السموات والأرض.
فالإخلاص روضة تملأ القلب إيمانًا وتَزيده يقينًا، وتشرح الصدر اطمئنانًا، وتُقرِّب العبد من الله وتُلحِقه بالصالحين، وإن فاتته رؤيتهم بعين الرأس، فعين القلب مُدرِكة مُترقِّبة.
روضة إذا عاشها قلب الصائم وتلذَّذ بما فيه من نعيم، فقد فاز فوزًا عظيمًا، ووجد راحة لا تخطُر له على بال، وعاش حياة الأبرار أو اقترب منهم، فهنيئًا للمخلصين أنهم أعجزوا عدوَّهم الشيطان الرجيم حتى اعترف مُقدَّمًا بصعوبة التأثير عليهم: ﴿ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 40].
يعيش الصائم المُخلِص بوِجدانه وحاله مُحقِّقًا معاني الإخلاص، فيقول لسانه عند فطره: ((اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت))، مسلِّمًا الأمر لمن بيده الأمر - سبحانه - ويتألم جوعًا ويتأذى عطشًا، لكنه لا يئنُّ ولا يشكو؛ فهو يعلم أن ذلك مراد محبوبه، ولا بد من طاعته لمالكه فيُفرِحه ألمه، ويُسعِده جوعه، فبيقين يقول: ((ثبت الأجر إن شاء الله)).
روضة الإخلاص إذا سكنت القلب تجعل الصعب سهلاً، بل المستحيل ممكنًا؛ إذ الحياة بالإخلاص تكون لله، ومن كانت حياته كلها لله يهون عنده كلُّ شيء في سبيل الله، وهل يدفع الشهداء إلى تقديم أنفسهم إلا لأنهم سلَّموا حياتَهم لله، فعلِموا أن ذلك يُقرِّبهم من الله - تبارك وتعالى - فقاموا به فَرِحين مسرورين.
لذا فوصْف هذه الروضة يَصعُب، والإحاطة بحقيقتها تستحيل، ليس لغموضها حاشاها لكن لعظمتِها وعجز الحاضر القاصر عن الحديث عنها؛ فلذلك كان من روائع معانيها عند الصائم، ((والصوم لي وأنا أجزي به)).
وعليه فكم يَخسر وكم يفوت مَن لم يهتم بهذه القضية، ولم يبحث عن طريق إلى هذه الروضة؟ وكم من لذات في الدنيا يعيشها أصحاب الإخلاص يُحرَم منها مَن حرَم نفسه دخولها!
وكم من درجة يتأخَّر عنها أصحاب الجنة، وإن كانوا في الجنة بسبب هذا التفاوت في هذه القضيَّة في الدنيا.
جاهِد النفس وابذُل النفيسَ لتدخل هذه الروضة، فالفوت منها لا يُعوِّضه شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة، ففيها تتفاوت الدرجات، وإن تساوت الحركات، وتختلف المراتب وإن اتَّفقت المشارب، فلا ترضَ من الأمر إلا بأعلاه ما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً.
روضة الإخلاص مفتاحها العلم واليقين بأن النفع والضر والتقديم والتأخير بيد العليم الخبير، وأن الخَلْق لا يُقدِّمون لأحد ولا يمنعون أحدًا من خير مادي أو معنوي إلا بإذن العزيز الحكيم.
ومانعها وقفلها أن تظنَّ أن بيد مخلوق مثلك نفعًا أو ضرًّا بغير إذن الله، رُفِعت الأقلام وجَفَّت الصحف.
روِّض نفسك، وكن حازمًا معها في هذا الباب، وخالِفْها تَسِر خلفك، فإن أطعتها وسايَرْتَها أهلكتك.
اللهم يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على طاعتك، وارزقنا الإخلاص واليقين والإمامة في الدين.
_______________________________ [1] البخاري (1) ومسلم (1907). [2] مسلم (3564).